تأملات في الهزائم والانتصارات
تأملات في الهزائم والانتصارات
إسلاميات
المقدمة:
هذا الموضوع يسلط الضوء على المواقع الفاصلة ، والأحداث الكبرى في بعض مراحل تاريخ الأمة المسلمة ، والله - سبحانه وتعالى - قد قصّ علينا قصص السابقين ، وساق لنا قصص الأنبياء والمرسلين ، لنتدبر فيها ونستقي منها العبرة ، ونقرأ بين سطورها وفي ثنايا الدروس التي كتبها الله - سبحانه وتعالى - في قواعد محكمة .. { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ..{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } .
وكما قضى الله - سبحانه وتعالى - بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين ، وكما قضت حكمته أن قطع على نفسه الوعد بأنه يدافع عن الذين آمنوا ، وربط الشرط بالمشروط .. { إن تنصروا الله ينصركم } .
غاية الأمر أننا نريد أن نسلط الضوء لنقرأ فيما وراء الأحداث ، ولنتأمل في الأمور التي قد لا يكترث الناس بها ، ولا تخلد في أذهانهم ولا تبقى في عقولهم ..
اقرأ التاريخ إذ فيـه العبر *** ضاع قوم ليس يدرون الخبر
إن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها ولا أن تخطط لمستقبلها ، قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى }
هذه الدنيا كلها بما فيها من الأحداث درس وعبرة ، يظهر للمؤمن فيها قدر الله - عز وجل - النافذ وحكمته البالغة ومشيئته التي لا يردها شيء، وكذلك تظهر من خلالها الصورة الحقيقة لأسباب النصر، والصورة الحقيقية لأسباب الهزيمة .
الوقفة الأولى : إعلان النصر قبل المعركة
شاهت الوجوه واتضحت مصارع
معلوم أن الانتصار لا يعلن قبل اللقاء ، وأنه في المعارك المهمة يبقى الجزم بالنصر والجولة الأخيرة حتى اللحظات الأخيرة غير معروف ، لكن سنأخذ ومضات سريعة نرى فيها أن النصر أعلن قبل بدء المعركة في كثير من الأوقات ، وذلك بسبب أن الذي جزم بهذا النصر قبل اللقاء قد استحضر أموراً معينة ، ورأى الأسباب مهيأة ، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير فجزم بذلك ، في أول يوم من أيام الله - عز وجل - في يوم الفرقان .. يوم بدر الأغر لما قضى الله - عز وجل - أن يـلـتـقـي محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبـه الكرام الميامين بكفار قريش ولم يكونوا قد تهيؤا لذلك .
عندما صُفَّت الصفوف وتعين اللقاء ، ماذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ توجه إلى الله عز وجل، وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلحف في المسألة ويلح في الدعاء، ويقول : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً .. اللهم هذه قريش قد جاءت بعودها ومطافيلها .. ) ويلحّ - عليه الصلاة والسلام – ( اللهم نصراً كالذي وعدتني ) حتى يسقط الرداء من على كتفه الشريف ، ويأتي أبو بكر ويقول : " حسبك يا رسول الله ؛ فإن الله منجز لك ما وعد " .. يكفي هذا الدعاء وهذا ا لإلحاح ، ثم نجد بعد الدعاء والإلحاح والإلحاف اليقين بالإجابة ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفنة من الحصى ورمى بها في جهة الكفار ، وقال : ( شاهت الوجوه ) ، ثم قال : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع عقبة بن أبي معيط .. هذا مصرع أبي جهل .. هذا مصرع أمية بن خلف .. ) ويعين مواقع مقاتلهم .
كما قال الرواة في السير فما أخطأ واحد منهم ما أشار، لقد تيقن - عليه الصلاة والسلام - بالنصر ؛ لأنه كان يعلم من أصحابه قلوباً مؤمنة بالله ، وجباهاً ساجدة له سبحانه وتعالى ، وصفَّاً موطد العرى بالمحبة والألفة في الله عز وجل ، فتحققت أسباب النصر ، فأعلنه - عليه الصلاة والسلام - قبل بدء المعركة .
أبشروا إذ زاغت الأبصار
وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين ، اجتمع فيه عليهم شدة البرد مع شدة الجوع مع شدة الخوف مع كثرة العدو مع خيانة الذي كان نصيراً .. في يوم الأحزاب الذي وصفه الله - عز وجل - وصفاً عجيباً حيث قال سبحانه وتعالى : { إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } .
في ذلك الموقف العصيب وقد اجتمعت قريش وغطفان ومن منعهم من بعض القبائل والأحابيش وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم وحاصروها ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، ثم يرسل - عليه الصلاة والسلام - السعدين ليستجليا له خبر قريظة ، قال : فإن كانوا نقضوا العهد فالحنا لي لحناً أعرفه ولا يعرفه غيري ، فلما بلغه الخبر - عليه الصلاة والسلام - بنقض قريظة للعهد ، كان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف ، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يُظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً ، يوشك أن يسقط على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه .. عندما بلغ بهذا الخبر كبَّر - عليه الصلاة والسلام - و قال : الله أكبر الله أكبر أبشروا بالنصر .. في عمق المأساة وفي شدة الكرب ، يكبر - عليه الصلاة والسلام - ويجزم بالنصر ؟ ولم يكن يعرف له سبباً ! ولم يكن يعرف من وحي الله ما سيقع بعد ! لكنه رأى أسباب النصر أمة موحدة لله - عز وجل - ما لانت ولا داهنت في دينها ، ولا باعت مبادئها ، ولا غيَّرت عهدها مع الله عز وجل .. أمة متوحِّدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( أبشروا بالنصر ) فجاء نصر الله - عز وجل - من حيث لم يحتسبوا ، ولم يشعروا ، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار وتُكفئ القدور ، وإذا بأبي سفيان زعيم القوم يُنهض ناقته قائلاً : " يا أهل مكة لا مقام لكم فارجعوا " .
وكفى الله المؤمنين القتال ، وبثّ في قلوب الكفار الرعب ، وجاء النصر .
وقد يقول قائل : إن هذا الإخبار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة ، ولكني أقول إن هذا ليس على هذا النحو والضرب .
والله إنكم لمنصورون
وإن كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مسدداً بالوحي ، لكن الأمر كان منه نظراً في هذه الأسباب أي أسباب النصر ، ولذا قد وقع من غير الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية ، من جزم بالنصر كما وقع من شيخ ا لإسلام بن تيمية في عام 702 هـ في موقعة شقحب عندما تلاقى المسلمون والتتار ، كان شيخ الإسلام - رحمة الله عليه - يحرض المؤمنين على القتال ، ويحثّهم على الجهاد ، ويؤمرهم بالدعاء ، ثم يقول : " والله إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة " ، فيقولون له : قل إن شاء الله ، فيقول لهم : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "
سبحان الله ! يجزم ويحلف ، وإذا قيل له : قل إن شاء الله ، يقول : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً " ، أي أن ذلك واقع لا محالة ولكنه بمشيئة الله لا تعليقاً كأنه يشك في نصر الله عز وجل ، لما جزم شيخ الإسلام بحصول النصر قبل وقوعه، وهو لا يوحى إليه وهو واحد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لأنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة ، فعلم أن قوماً قد لجأوا إلى الله - عز وجل - ونابذوا المعاصي ، وتوحدت صفوفهم سينصرهم الله عز وجل ؛ لأن وعده لا يتخلف .. { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
إذاً هذه الومضة - وليست مقصودنا في الحديث - إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرية ، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب الإيمانية المعنوية التي فيها وفاء بعهد الله ، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى .
الوقفة الثانية : مواقف حاسمة في تاريخ الأمة
إن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية ، لا يتوقع لها أن تنهض من كبوتها ، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة ، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس ، لكننا سنجد مما سأضربه من بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة ، وذلك يدلنا أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم ..لم تنل من عزائمهم .. لم تزعزع من صلتهم وثقتهم بالله عز وجل ..لم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم وفي مبادئهم وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم ، ولذلك نجد هناك مواقف حاسمة في تاريخ الأمة .
طَرْدٌ بعد عامين
في عام 491 هـ اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها ، ودخلوا إلى المسجد الأقصى وقتلوا فيه من المسلمين نحو سبعين ألف نفس ، حتى خاضت ركب الخيل في دماء المسلمين .. هزيمة مروِّعة وفظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ بعد عامين اثنين فقط ، في عام 493 هـ التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى ، فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها ..
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية : أن عدة جيشهم كان نحو ثلاثين ألف قتلوا عن بكرة أبيهم ما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم وجرح بعضهم وهرب بعضهم، أولئك الذين هزموا ما زال فيهم من أسباب النصر مما هُيئ لمجموعة قليلة منهم بأن يتحققوا بأسباب النصر ارتباطاً بمنهج الله وثباتاً على منهجه ، فنصرهم الله - عز وجل - وهم لم تهدأ جراحهم بعد ، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة.
اندحار بعد عامين
وفي عام 656 هـ وسيأتي حديثنا عن هذه مفصلاً عندما دخلت جيوش التتار بغداد - ونعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من الفظاعة والهول - ثم بعد عامين اثنين مرة أخرى، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام 658 هـ تأتي موقعة عين جالوت ، ويُكسر فيها التتار .. الجيش الذي لا يقهر كما يقال .. الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس .. يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل ، لماذا لأن بعض الأسباب قد تحققت .
الثأر لدماء لم تجف
وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب أحد ، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة ، ومضى منهم إلى الله - عز وجل - سبعون من الشهداء وأثخن البقية بالجراح ، وشُجَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته ، ودخلت حلقتا المِغْفَر في وجنته عليه الصلاة والسلام ، ثم رجعوا إلى المدينة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا ، بأي شيء ؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا ما وقع بهم ؟ أمرهم وطلب منهم أن يخرجوا ليلحقوا بجيش المشركين بأبي سفيان ومن معهم من أهل قريش .. أولئك القوم الذين جراحهم ما تزال تنزف دماء وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة ، وأمر أن لا يخرج معهم أحد أبداًً ممن لم يشهد أحداً ، فماذا كان موقف الصحابة ما تخلف منهم رجل واحد .. { الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }
خرجوا ما تخلف منهم رجل واحد، لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتُضْعِفُه ، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي ، وهممهم أعلى من ذرى السحاب ، ولذلك استجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما اعتبروا مهزومين ، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام بلياليها ، فلما أراد أبو سفيان - بعد أن مضى - أن يرجع إلى المدينة ، ويتتبع جراحات المسلمين ، قال : " ما بلغنا من القوم مبلغاً .. ما قتلنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا قتلنا أبا بكر ، ولا عمر ، ولا استأصلنا شأفتهم ، ولا غزونا مدينتهم .. "، وكان يفكر بالرجوع ، فإذا به بأحد الأعراب ، فسأله : ما خبر محمد ؟ فقال رأيته هو وأصحابه يجد في أثركم ، فلاذ أبو سفيان بالفرار قناعة بالنصر الهزيل الذي حازه ووقع له .
فإذاً إذا لم تنل الهزيمة من الإيمان ومن النفوس والعزائم فإن الجولة القادمة وشيكة الوقوع بإذنه سبحانه وتعالى ، ولذلك فطن أعداء الأمة فلم يكن اعتناءهم - بعد دراسة طويلة بعد الحروب الصليبية - بكسر المسلمين عسكرياً وحربياً فحسب ، بل كانوا يريدون أن يطيلوا أمد الهزيمة دهراً طويلاً ، وأن يعمِّقوا تأثيرها في النفوس وفي القلوب والعقول والسلوكيات والأحوال الاجتماعية والاقتصادية حتى ينخروا في بنيان الأمة ، فلا تقوم لها قائمة في تصورهم ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
إسلاميات
المقدمة:
هذا الموضوع يسلط الضوء على المواقع الفاصلة ، والأحداث الكبرى في بعض مراحل تاريخ الأمة المسلمة ، والله - سبحانه وتعالى - قد قصّ علينا قصص السابقين ، وساق لنا قصص الأنبياء والمرسلين ، لنتدبر فيها ونستقي منها العبرة ، ونقرأ بين سطورها وفي ثنايا الدروس التي كتبها الله - سبحانه وتعالى - في قواعد محكمة .. { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ..{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } .
وكما قضى الله - سبحانه وتعالى - بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين ، وكما قضت حكمته أن قطع على نفسه الوعد بأنه يدافع عن الذين آمنوا ، وربط الشرط بالمشروط .. { إن تنصروا الله ينصركم } .
غاية الأمر أننا نريد أن نسلط الضوء لنقرأ فيما وراء الأحداث ، ولنتأمل في الأمور التي قد لا يكترث الناس بها ، ولا تخلد في أذهانهم ولا تبقى في عقولهم ..
اقرأ التاريخ إذ فيـه العبر *** ضاع قوم ليس يدرون الخبر
إن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها ولا أن تخطط لمستقبلها ، قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى }
هذه الدنيا كلها بما فيها من الأحداث درس وعبرة ، يظهر للمؤمن فيها قدر الله - عز وجل - النافذ وحكمته البالغة ومشيئته التي لا يردها شيء، وكذلك تظهر من خلالها الصورة الحقيقة لأسباب النصر، والصورة الحقيقية لأسباب الهزيمة .
الوقفة الأولى : إعلان النصر قبل المعركة
شاهت الوجوه واتضحت مصارع
معلوم أن الانتصار لا يعلن قبل اللقاء ، وأنه في المعارك المهمة يبقى الجزم بالنصر والجولة الأخيرة حتى اللحظات الأخيرة غير معروف ، لكن سنأخذ ومضات سريعة نرى فيها أن النصر أعلن قبل بدء المعركة في كثير من الأوقات ، وذلك بسبب أن الذي جزم بهذا النصر قبل اللقاء قد استحضر أموراً معينة ، ورأى الأسباب مهيأة ، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير فجزم بذلك ، في أول يوم من أيام الله - عز وجل - في يوم الفرقان .. يوم بدر الأغر لما قضى الله - عز وجل - أن يـلـتـقـي محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبـه الكرام الميامين بكفار قريش ولم يكونوا قد تهيؤا لذلك .
عندما صُفَّت الصفوف وتعين اللقاء ، ماذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ توجه إلى الله عز وجل، وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلحف في المسألة ويلح في الدعاء، ويقول : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً .. اللهم هذه قريش قد جاءت بعودها ومطافيلها .. ) ويلحّ - عليه الصلاة والسلام – ( اللهم نصراً كالذي وعدتني ) حتى يسقط الرداء من على كتفه الشريف ، ويأتي أبو بكر ويقول : " حسبك يا رسول الله ؛ فإن الله منجز لك ما وعد " .. يكفي هذا الدعاء وهذا ا لإلحاح ، ثم نجد بعد الدعاء والإلحاح والإلحاف اليقين بالإجابة ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفنة من الحصى ورمى بها في جهة الكفار ، وقال : ( شاهت الوجوه ) ، ثم قال : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع عقبة بن أبي معيط .. هذا مصرع أبي جهل .. هذا مصرع أمية بن خلف .. ) ويعين مواقع مقاتلهم .
كما قال الرواة في السير فما أخطأ واحد منهم ما أشار، لقد تيقن - عليه الصلاة والسلام - بالنصر ؛ لأنه كان يعلم من أصحابه قلوباً مؤمنة بالله ، وجباهاً ساجدة له سبحانه وتعالى ، وصفَّاً موطد العرى بالمحبة والألفة في الله عز وجل ، فتحققت أسباب النصر ، فأعلنه - عليه الصلاة والسلام - قبل بدء المعركة .
أبشروا إذ زاغت الأبصار
وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين ، اجتمع فيه عليهم شدة البرد مع شدة الجوع مع شدة الخوف مع كثرة العدو مع خيانة الذي كان نصيراً .. في يوم الأحزاب الذي وصفه الله - عز وجل - وصفاً عجيباً حيث قال سبحانه وتعالى : { إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } .
في ذلك الموقف العصيب وقد اجتمعت قريش وغطفان ومن منعهم من بعض القبائل والأحابيش وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم وحاصروها ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، ثم يرسل - عليه الصلاة والسلام - السعدين ليستجليا له خبر قريظة ، قال : فإن كانوا نقضوا العهد فالحنا لي لحناً أعرفه ولا يعرفه غيري ، فلما بلغه الخبر - عليه الصلاة والسلام - بنقض قريظة للعهد ، كان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف ، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يُظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً ، يوشك أن يسقط على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه .. عندما بلغ بهذا الخبر كبَّر - عليه الصلاة والسلام - و قال : الله أكبر الله أكبر أبشروا بالنصر .. في عمق المأساة وفي شدة الكرب ، يكبر - عليه الصلاة والسلام - ويجزم بالنصر ؟ ولم يكن يعرف له سبباً ! ولم يكن يعرف من وحي الله ما سيقع بعد ! لكنه رأى أسباب النصر أمة موحدة لله - عز وجل - ما لانت ولا داهنت في دينها ، ولا باعت مبادئها ، ولا غيَّرت عهدها مع الله عز وجل .. أمة متوحِّدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( أبشروا بالنصر ) فجاء نصر الله - عز وجل - من حيث لم يحتسبوا ، ولم يشعروا ، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار وتُكفئ القدور ، وإذا بأبي سفيان زعيم القوم يُنهض ناقته قائلاً : " يا أهل مكة لا مقام لكم فارجعوا " .
وكفى الله المؤمنين القتال ، وبثّ في قلوب الكفار الرعب ، وجاء النصر .
وقد يقول قائل : إن هذا الإخبار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة ، ولكني أقول إن هذا ليس على هذا النحو والضرب .
والله إنكم لمنصورون
وإن كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مسدداً بالوحي ، لكن الأمر كان منه نظراً في هذه الأسباب أي أسباب النصر ، ولذا قد وقع من غير الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية ، من جزم بالنصر كما وقع من شيخ ا لإسلام بن تيمية في عام 702 هـ في موقعة شقحب عندما تلاقى المسلمون والتتار ، كان شيخ الإسلام - رحمة الله عليه - يحرض المؤمنين على القتال ، ويحثّهم على الجهاد ، ويؤمرهم بالدعاء ، ثم يقول : " والله إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة " ، فيقولون له : قل إن شاء الله ، فيقول لهم : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "
سبحان الله ! يجزم ويحلف ، وإذا قيل له : قل إن شاء الله ، يقول : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً " ، أي أن ذلك واقع لا محالة ولكنه بمشيئة الله لا تعليقاً كأنه يشك في نصر الله عز وجل ، لما جزم شيخ الإسلام بحصول النصر قبل وقوعه، وهو لا يوحى إليه وهو واحد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لأنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة ، فعلم أن قوماً قد لجأوا إلى الله - عز وجل - ونابذوا المعاصي ، وتوحدت صفوفهم سينصرهم الله عز وجل ؛ لأن وعده لا يتخلف .. { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
إذاً هذه الومضة - وليست مقصودنا في الحديث - إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرية ، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب الإيمانية المعنوية التي فيها وفاء بعهد الله ، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى .
الوقفة الثانية : مواقف حاسمة في تاريخ الأمة
إن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية ، لا يتوقع لها أن تنهض من كبوتها ، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة ، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس ، لكننا سنجد مما سأضربه من بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة ، وذلك يدلنا أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم ..لم تنل من عزائمهم .. لم تزعزع من صلتهم وثقتهم بالله عز وجل ..لم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم وفي مبادئهم وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم ، ولذلك نجد هناك مواقف حاسمة في تاريخ الأمة .
طَرْدٌ بعد عامين
في عام 491 هـ اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها ، ودخلوا إلى المسجد الأقصى وقتلوا فيه من المسلمين نحو سبعين ألف نفس ، حتى خاضت ركب الخيل في دماء المسلمين .. هزيمة مروِّعة وفظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ بعد عامين اثنين فقط ، في عام 493 هـ التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى ، فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها ..
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية : أن عدة جيشهم كان نحو ثلاثين ألف قتلوا عن بكرة أبيهم ما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم وجرح بعضهم وهرب بعضهم، أولئك الذين هزموا ما زال فيهم من أسباب النصر مما هُيئ لمجموعة قليلة منهم بأن يتحققوا بأسباب النصر ارتباطاً بمنهج الله وثباتاً على منهجه ، فنصرهم الله - عز وجل - وهم لم تهدأ جراحهم بعد ، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة.
اندحار بعد عامين
وفي عام 656 هـ وسيأتي حديثنا عن هذه مفصلاً عندما دخلت جيوش التتار بغداد - ونعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من الفظاعة والهول - ثم بعد عامين اثنين مرة أخرى، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام 658 هـ تأتي موقعة عين جالوت ، ويُكسر فيها التتار .. الجيش الذي لا يقهر كما يقال .. الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس .. يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل ، لماذا لأن بعض الأسباب قد تحققت .
الثأر لدماء لم تجف
وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب أحد ، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة ، ومضى منهم إلى الله - عز وجل - سبعون من الشهداء وأثخن البقية بالجراح ، وشُجَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته ، ودخلت حلقتا المِغْفَر في وجنته عليه الصلاة والسلام ، ثم رجعوا إلى المدينة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا ، بأي شيء ؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا ما وقع بهم ؟ أمرهم وطلب منهم أن يخرجوا ليلحقوا بجيش المشركين بأبي سفيان ومن معهم من أهل قريش .. أولئك القوم الذين جراحهم ما تزال تنزف دماء وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة ، وأمر أن لا يخرج معهم أحد أبداًً ممن لم يشهد أحداً ، فماذا كان موقف الصحابة ما تخلف منهم رجل واحد .. { الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }
خرجوا ما تخلف منهم رجل واحد، لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتُضْعِفُه ، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي ، وهممهم أعلى من ذرى السحاب ، ولذلك استجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما اعتبروا مهزومين ، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام بلياليها ، فلما أراد أبو سفيان - بعد أن مضى - أن يرجع إلى المدينة ، ويتتبع جراحات المسلمين ، قال : " ما بلغنا من القوم مبلغاً .. ما قتلنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا قتلنا أبا بكر ، ولا عمر ، ولا استأصلنا شأفتهم ، ولا غزونا مدينتهم .. "، وكان يفكر بالرجوع ، فإذا به بأحد الأعراب ، فسأله : ما خبر محمد ؟ فقال رأيته هو وأصحابه يجد في أثركم ، فلاذ أبو سفيان بالفرار قناعة بالنصر الهزيل الذي حازه ووقع له .
فإذاً إذا لم تنل الهزيمة من الإيمان ومن النفوس والعزائم فإن الجولة القادمة وشيكة الوقوع بإذنه سبحانه وتعالى ، ولذلك فطن أعداء الأمة فلم يكن اعتناءهم - بعد دراسة طويلة بعد الحروب الصليبية - بكسر المسلمين عسكرياً وحربياً فحسب ، بل كانوا يريدون أن يطيلوا أمد الهزيمة دهراً طويلاً ، وأن يعمِّقوا تأثيرها في النفوس وفي القلوب والعقول والسلوكيات والأحوال الاجتماعية والاقتصادية حتى ينخروا في بنيان الأمة ، فلا تقوم لها قائمة في تصورهم ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .